يحبّ أهل غزّة تربية الحمام والزغاليل | شهادة

غزّيّون ينزحون من القصف الإسرائيليّ، 10/11/2023 | محمّد همص (Getty).

 

تبلّل الأمّهات الخبز الناشف بالماء

غبار المدينة يطفو على وجهي خلف شاشة الهاتف، وأنا أشاهد كيف سُوِّيَت مدينتي بالأرض، أشاهد بصمت وبكاء طويل. لا أهمّيّة للأصابع الّتي تكتب عن هذه المدينة الآن، فالآن - أي بعد مرور شهر كامل على الإبادة الجماعيّة في غزّة - وصل عدد الضحايا إلى أكثر من عشرة آلاف؛ أي عشرة آلاف حلم وقصّة ورواية، أهذا لا يجعل أصابعنا مبتورة؟ تفتح سماء غزّة أبوابها لكلّ الأشباح، لا حروف تواسيها ولا دموع تنجيها. السماء في تشرين الأوّل جائعة لدماء الأطفال والنساء، ألا عقل رشيدًا يُفْهِم القدر أنّ هذه الدماء تذبحنا؟

حبيبتي غزّة، ذهبت لكي أنام بعد سهري الطويل معك في القاهرة، أعرف أنّك ساخطة عليّ، لأنّني بعيد، وتريدين أن تبتلعي حلمي كما البقيّة، هذه سخرية القدر يا حبيبتي، أن أكتب دمي النازف وأنا أبكيك بعيدًا عنك، أنا أتذكّرك دائمًا، أنا لا أنساك، أنتبه إلى كلّ التفاصيل هنا وهناك في جرائد الأخبار والراديو. وددت ليلة أمس أن أشكو إليك مشاهد الدمار العالقة في رأسي، وصوت الأطفال تحت الأنقاض. كلّ مساء يكون قاسيًا عليّ، قاسيًا وشديدًا، وددت أن أشكو إليك خوفي من أن أترك الهاتف؛ أن يكون أحد أفراد أهلي وأصدقائي خبرًا عاجلًا، لا أنكر أنّني خائف وأعيش مذعورًا بعيدًا عنكك.

تشرين الأوّل هذا العام، سيكتب التاريخ أنّنا كنّا جزءًا من مسار دمويّ؛ دمويّ لا شيء آخر، على مرأى عيون العالم بأسره. الحياة أصبحت معقّدة، لا شيء على ما يُرام، وكلّ شيء ملطَّخ بالخوف والفقد. ومن العبث في هذا النوع من الإبادة، أنّ هذه الآليّات اللعينة لا يحلو لها أن تصبّ جنونها في الأرض إلّا ليلًا. في إحدى الليالي استطعت أن أهاتف أسرتي بعد انقطاع الاتّصالات ثلاثة أيّام، أن تموت ولا أحد يراك تلك فكرة وحدها مرعبة، حتّى أنّهم يحرموننا من الوداع الأخير لمَنْ نحبّ أمام عدسات الكاميرا اللعينة، يقتلونهم بصمت وبشراسة، شراسة حقيرة.

هاتفت أبي، لم يكن بمقدوري إطالة الحديث معه؛ فقد كانت بطّاريّة هاتفه على وشك النفاد، ومرّ أكثر من عشرين يومًا بلا كهرباء. قال لي بحشرجة صوتٍ بعض الكلمات: "والله الوضع صعب يابا، أوّل مبارح وقفت دور عند المخبز أكثر من 6 ساعات، وما حصلت إلّا على نصّ ربطة خبز، مفيش والله ميّة حلوة، بنشرب ميّة مقرفة مبتفرقش عن ميّة المجاري، يعني من أوّل ما بلّشت الحرب ما تحمّمت غير مرّتين، شبدّك تعمل بغزّة؟ اليوم كان مفيش خبز في المخبز، لملمت كراتين الدار وشويّة خشب، وولّعت فرن الطينة، وعملت 40 رغيف صاج لكلّ الدار، والدار فيها 25 نفر، يعني بطلع لكلّ واحد رغيف ونصّ طول اليوم، والله هذا جحيم يلّي إحنا بنعيشوا وكفر".

شحّ الخبز والماء وصل مخيّمي دير البلح، هذا المكان الّذي لا يخلو من أشجار النخيل والهدوء البحت حزين الآن، نزح إليه الآلاف من سكّان شمال القطاع، حاولت الاتّصال بأحد أصدقائي في دير البلح بعد انقطاع طويل، قال لي: "لا فرق بين دير البلح وغزّة المدينة وغيرها الآن؛ الكلّ منشغل بالذات، وأريد أن أخبرك شيئًا مهمًّا؛ اليوم تحمّمت وشربت ميّة حلوة، وأكلت خبز ساخن، وقدرت كمان أشحن جوّالي وهيني بكلّمك، أنا اليوم غرقان في النعم".

لا شيء يوحي الأمل في هذه المدينة، الخراب يأكل الأخضر واليابس، الجميع هنا ميّت، لكنّ فرق التوقيت هو الّذي يفصل بينهم. الناس في غزّة يحبّون الحياة، هذه هي الحقيقة الّتي لا يريد أحد يعيش خارجها أن يستوعبها؛ الناس يريدون بصيصًا من الأمل ليحيوا، ولو هنيهة من الزمن.

يحبّ أهل غزّة تربية الحمام والزغاليل، تشرب الطيور الماء النظيف، وتعيش تحت سماء شبه زرقاء خالية من الرماد، وكلّ صباح ينقع ربّ البيت فتات الخبز الّذي تبقّى من عشاء الأمل، ويبلّله بالماء ليطعم الحمام، والفائض منه يرميه على سطح البيت للعصافير. لكنّ الآن الوضع مغاير؛ لا عصافير تحلّق في السماء، ولا حمام في الأقفاص، ولا زغاليل تُؤْكَل، ولا خبز فائضًا من العشاء.

تبلّل الأمّهات الخبز الناشف بالماء، وترشّ عليه الملح إذا توفّر، وتطعم أولادها.

 

 

لو أنّ القدر استطاع أن يخطف غزّة بعيدًا عن غزّة الآن

نحن، مَنْ كنّا نحلم بأن نصنع شيئًا كبيرًا ومدهشًا يغيّر هذا العالم الراكد مِنْ حولنا للأبد، نجلس الآن بعد كلّ هذه السنوات من المحاولات والخيبات لنشاهد غزّة وهي تتغيّر أمامنا فعلًا، معجزة كبيرة وموت هائج نراه يولد أمامنا من بين مئات الصور المروّعة، والصمت الّذي يصمّ الآذان، نرقبها مفتونين ومكلومين، ممتلئين باليأس، مذعورين، منتشين ومقهورين. نتدحرج على سلّم هذه المشاعر المستحيلة في اليوم ألف مرّة لأنّنا نشاهد، فقط نشاهد؛ لأنّنا كنّا نشاهد موت الأصدقاء والبحر والمدينة والهواء ونحن نرى، نرى خلف شاشات هواتفنا حدود الموت تتفتّح على المدينة.

لا نستطيع العيش بذاكرة عميقة كهذه، ولا من دون ذاكرة أيضًا؟ أين الحلّ؟

الذاكرة خطرة جدًّا، معمل أشباح في بلد يسيطر فيها الموتى على الأحياء والماضي على المستقبل.

فجّر الطيران فينا ينابيع الأحلام، ربيع الأرض ذهب للأبد عن المدينة، رحلة موت تدمي صدورنا، كلّ شيء يكسرنا، لم يتبقّ دم فينا، لا هواء صلب من النساء، قتلوا أنبياء غزّة يا ربّ، يسرقون أحلامهم الصغيرة ويجعلون منها أشلاءً يا ربّ، يعلّق العالم وسام الشرف على أشلاء الأطفال، "كسروك كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشًا".

غزّة كانت مثل يوسف، جميلة ومبهجة وتثير فيك الرغبة، قطعت النساء أيديّهن عند رؤيته، هكذا كنّا نقول للصحافيّين عن غزّة في شوارع القاهرة، الآن قتلوا يوسف والرغبة والبحر والطفل.

أنا مرتعب من فقدان عقلي، خائف من جنوني، خائف من الخوف. لا أستطيع العودة من حيث جئت، وهذه مأساتي!

يا ربّ، نحن الآن مغتربون، نرمي بدعوات إلهيّة نحو السماء، دعوات تلتقطها يداك القريبة، خذها يا الله واسمع صمتها، مراسيل تتمنّى لو أنّ القدر استطاع أن يخطف غزّة بعيدًا عن غزّة الآن، غزّة يا ربّ قست علينا كثيرًا، تقسو علينا حين نغادرها وحين يزداد توهّجنا إليها، لا نملك أيّ معنًى وصياغة حقيقة للعيش هنا، يا ربّ أنت آخر أمل في هذا النفق، يا ربّ هذا الكون، دعنا نحترم القيامة قليلًا بعد هذا العبث.

 

 

أحنّ من أن تتركني من دون عناق

جسد مغترب، بالكاد يتواصل مع مَنْ يحبّ في غزّة، يتدرّج الموت في المدينة. كنت أعرف أخبارها من صوتها، الآن من الأخبار عن المكان الّذي تمكث فيه، الآن من صوت قلبي. فقدت الأخبار كافّة عن المدينة وعنها.

تهبط على رأسك أفكارك الهاربة السوداويّة

فوّهة جهنّم تتسلّط عليك

قالت وهي تبتلع صوت القذائف:

قل للعالم إنّهم يقتلونا حبيبي

هكذا ببساطة... ببساطة أيّها العالم

أخبّئ وجع الوطن في صدري، رسالة من امرأة بالكاد تُرى، رسالة لن يفهمها سواك، أنت مَنْ ستعانقني عنوة، أجل، سيجفّ ألمي في يدك، هكذا أفهم الأبجديّة، أنا هنا، عنوة، رغم أنف الطبيعة.

حبيبي، قتلونا بالخوف، هذه حقيقة، نحن وإن لن تقتلنا حقيقة القذائف سنموت من الخوف، الخوف يقضي علينا بشكل لا بأس به. يا حبيبي، الطفل الّذي طالما حاولت ألّا أقتله في صدري مات، مات وهو ينتظر الموت من غير وجع، هلّا أتيت الآن؟ ماذا عن غياب الأمان الّذي ربّما يكون أبدي بين أحشائك؟ يا حبيبي أرجوك أخبرني، هل الله يرانا؟ لا تكذب عليّ، أنا هنا بين عشرين إنسانًا ينتظر الموت وجداري إسمنت ينتظران السقوط... أخبرني، نحن الآن أين نعيش؟

هدأتْ عشر ثوانٍ ثمّ بكت

هي امرأة عاشت في عائلة ممتدّة 

دخلتْ في زقاق الطائرات اللعينة

تفكّر في التأخّر في الإنجاب 

تقوى على الملل بالتأمّل الطويل في الجدران

تفكّر هربًا من أن تغفو للمرّة الأخيرة

تحاول إيجاد شيء ما ينقذها

شيء ما كاذب كما العالم الحقير

تخشى أن يتحوّل اسمها إلى خبر عاجل

تخشى هذا الخوف اللعين

تخشى أن تتحوّل إلى رقم ما

تُدْفَن في حفرة ما وينساها البحر

تقترب من البحر أكثر

تخاف أن تموت وتتحوّل إلى رقم لعين

هي مثلي، لها أحلامها الصغيرة وزيتونة قديمة

زيتونة تنحت أظافرها في جذعها

قلبٌ نابضٌ وحلمٌ لا ينتهي

لا ينتهي إلى هذه اللحظة الّتي أكتب فيها

كانت تعيش أعمق العطف هنا

الآن هي إلى هاوية الخوف

‏ كانت تنظرني في غرفتها الصغيرة

الآن ولا أدري صحّة ما أكتبه

هي تنتظرني بين بعض الحجارة في بيت الدرج 

تنتظرني إلى هذه اللحظة

وحتّى حين تقتل الطائرات رغبتها في عناقي

لكن هي أحنّ من أن تتركني من دون عناق

أحنّ من هذه العالم القاسي

سترسم صورة الغزال فيّ

وتنتظرني

ستنتظرني إن شاء القدر 

أم لا

 


 

مؤمن موسى

 

 

 

كاتب من مخيّم دير البلح في قطاع غزّة. يكتب في مختلف المنابر العربيّة. يدرس الطبّ في مصر.